فوبيا البعث... والاستخدام الانتخابي

.

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
15/02/2010 06:00 AM
GMT



لم تكن لحظة 14 تموز 1958 مجرد بداية للحكم الجمهوري "المفترض" في العراق، ولم تكن أيضا بداية لشرعنة حكم العسكر فقط، وإنما كانت بداية للفكر الاستئصالي المشرعن، ليس ديماغوجيا وحسب، وإنما أيديولوجيا أيضا.
 كان العنف الذي مارسته الآلة العسكرية من خلال إعدام العائلة المالكة (من الغريب أن البعض لا يزال يحاول تبرئة عبد الكريم قاسم وحده من هذه الجريمة!)، والعنف الذي مارسته "الجماهير" ضد نوري السعيد وعبد الإله، مجرد مقدمة لفكر شمولي وممارسات استئصاليه ستحكم المراحل اللاحقة من تاريخ العراق المعاصر كله. لا فرق إذا كان هذا الاستئصال يتم من خلال الرفاق الثوريين والديماغوجيون وحبالهم (ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة)، أو الرفاق الثوريين اللاحقين من "الحرس" من خلال عمليات القتل في معتقلات رسمية، أو الرفاق الثوريين من رجال الجهاز الخاص، أو الأجهزة الأمنية المختلفة لاحقا، أو من خلال المجاهدين الثوريين ومليشياتهم. ولا فرق إذا ما تم ذلك بتواطؤ، معلن أو غير معلن، مع الدولة/السلطة التي يفترض أنها المحتكر الوحيد للعنف، أو تم من خلال قوانين وأنظمة وأوامر "شرعية" تقررها الدولة/السلطة (ولا فرق أيضا بين تجريم الانتماء إلى الحزب الشيوعي أو إلى الحزب الإسلامي أو إلى حزب الدعوة، و بين ما يسمى اليوم بقانون الاجتثاث، أو المساءلة والعدالة)، أو من خلال المحاكم الشرعية" (من محكمة المهداوي إلى المحكمة الجنائية الخاصة مرورا بمحاكم الثورة)، أو حتى من خلال مواد الدستور نفسه.
لقد حكم الفكر الاستئصالي، لا نظريا فقط، وإنما ممارسة أيضا؛ من خلال تاريخ الدم منذ عام 1958 وحتى اللحظة، الخطاب السياسي العراقي، والممارسة السياسية العراقية، وتاريخ الدولة/ السلطة العراقية. ولم يتم النظر، ولو للحظة، إلى هذا التاريخ إلا من خلال فوهة بندقية، أو استدارة حبل مشنقة. ومن خلال زاوية الإيديولوجيا، التي لا تؤمن إلا بأنها وحدها المالكة للحقيقة المطلقة، وانها وحدها القابضة على مشعل "الوطنية".
طوال السنوات الخمسة اللاحقة بالاحتلال 2003-2008 ، لم يعد حزب البعث العربي الاشتراكي يحضر في الخطاب السياسي في العراق إلا من خلال الأمر رقم واحد الذي أصدره بريمر في 16/5/2003، والذي حمل بالنسخة الرسمية باللغة العربية عنوان "تطهير المجتمع من حزب البعث"، ولكنه اشتهر من خلال ترجمة مصطلح De- Ba'athification بالاجتثاث. وكانت هناك محاولات واعية، أو غير واعية لعدم الإشارة إلى "البعث" بشكل مباشر عند الحديث عن الدور المحتمل لأعضائه في عمليات العنف، واستبدال ذلك بمصطلحات مثل أيتام النظام أو الصداميين وغيرها في محاولة لتأكيد انتهاء "البعث" رمزيا. بل إن الدستور نفسه، وفي المادة (7) تحدث عن حظر "البعث الصدامي" وليس حزب البعث. ولم يحضر باسمه الصريح إلا في الدعاية الانتخابية  لعام 2005، وتحديدا من خلال تركيز الائتلاف العراقي الموحد على وصم منافسيه، وبالأخص  أياد علاوي بوصمة "البعثية"، ونتذكر جميعا الملصق الذي حمل جزءا من صورة علاوي وهي تكمل خلفية تحمل صورة صدام حسين.
ولكن الوضع بدأ يتغير مع نهاية عام 2008، وكانت البداية من خلال تصريح السيد رئيس الوزراء بإمكانية التعامل مع "البعث" في إطار ما يسمى بالمصالحة الوطنية، ولكن ردة الفعل التي واجهتها الدعوة "إئتلافيا"، ومحاولات تسويق رد الفعل شعبويا، دفع بالمالكي للعودة إلى موقف أكثر تشددا من "البعث" و "البعثيين" في هجوم مقابل سريع بهدف منع "المؤتلفين" معه من تسجيل أي نقطة محتملة "شعبويا"، ومن ثم "انتخابيا". ولكن وتيرة محاولة تسويق "فوبيا" البعث صارت جزءا من الخطاب السياسي باتجاه تصاعدي، وكان تصريح السيد عمار الحكيم من أن (40 بعثيا رشحوا في انتخابات مجالس المحافظات)، ومن ثم تحذيره من (أن البعثيين رجعوا للدخول في العملية السياسية الجديدة تحت مسميات أخرى بمساعدة دول الجوار بالمال والإعلام) (صحيفة الحياة في 19 أيار 2009) نقلت "البعث" إلى مرحلة جديدة. وكانت لحظة الذروة في هذا التصعيد تفجيرات الأربعاء 19/8/2009 ؛ حين تم ولأول مرة اتهام "البعث" بأنه وراء هذه العملية النوعية. بل وصل الأمر إلى تجاهل اعتراف "دولة العراق الإسلامية" بالعملية. هكذا تم اختراع "العدو" القديم/الجديد، وصرنا أمام عمليات منهجية لاستبدال العدو المعلن على مدى السنوات الخمسة الماضية بعدو آخر.
ولكن بقاء "العدو" في حدود العمليات العسكرية يبدو غير مقنع في سياق المعركة الانتخابية القادمة، لذا كان لا بد من تصعيد من نوع آخر. لم يعد "البعث" مجرد "عدو" مسلح قادر على تنفيذ عمليات نوعية ضد رموز سيادية، وإنما صار عدوا قادرا على تغيير المعادلة السياسية في العراق "الجديد". لذلك وجدنا السيد رئيس الوزراء يحذر في 2/11/2009 من (أسماء وحركات سياسية بعثية في عمقها ويريدون برلمانا بعثياً(؛ والسيد عمار الحكيم يحذر بعد ثلاثة أيام فقط، من اختراق "البعث الصدامي" للائتلافات الانتخابية القائمة، ووجدنا النائب عباس البياتي يتحدث صراحة عن ضرورة تشكيل ائتلاف موسع (لمواجهة الخطر البعثي المتستر الذي يدب بقرنه من خلال واجهات سياسية)، أما النائب سامي العسكري، فيتهم صراحة "الحركة الوطنية العراقية" التي شكلت باندماج حركتي الوفاق والحوار بأنها (تمهيد لعودة البعثيين)، بل وبأنها (قائمة بعثية). بل تجاوز الأمر الحديث عن "عدو" محتمل، إلى الحديث عن وضع قائم. فالنائب محمود عثمان يصرح بان التأجيل المحتمل للانتخابات إنما يأتي (لترتيب أوضاع البعثيين)، فيما يرجع النائب لطيف حاجي حسن سبب تأخير إقرار قانون الانتخابات إلى (البعثيين)!
إذا كانت القوى السياسية العراقية، والنخب السياسية المفترضة، ما تزال تخشى من "البعث"، بعد أكثر من ست سنوات من اجتثاثه، هل ثمة إمكانية لمراجعة حقيقية للفكر الاستئصالي، والتفكير بمعالجة الموضوع ضمن رؤية إستراتيجية تتعلق ببناء الدولة والمجتمع، وليس من خلال الاستخدام التكتيكي/الشعبوي لفوبيا البعث لأغراض نفعية مباشرة حسب.